الإنسان يُولَد وحده، ويموت وحده، ويَصل إلى الحق وحده، وليست مبالغة أن توصَف الدنيا بأنها باطل الأباطيل؛ فكل ما حولنا مِن مظاهر الدنيا يتصف بالبطلان والزيف، ونحن نقتل بعضنا بعضًا في سبيل الغرور، وإرضاءً لكبرياء كاذب. والدنيا مَلهاة قبل أن تكون مأساة، ومع ذلك نحن نتحرق شوقًا في سبيل الحق، ونموت سعداء في سبيله، والشعور بالحق يملؤنا تمامًا، وإنْ كنا نعجز عن الوصول إليه. إننا نشعر به مِلء القلب، وإن كنا لا نراه حولنا، وهذا الشعور الطاغي هو شهادة بوجوده، إننا وإنْ لم نَر الحق وإنْ لم نَصل إليه وإن لم نبلغه؛ فهو فينا وهو يحفزنا، وهو مثال مطلَق لا يغيب عن ضميرنا لحظة، وبصائرنا مفتوحة عليه دومًا.
يقولون: "إنَّ الله خَلق الدنيا؛ لأنه لا بد لكل مخلوق مِن خالق، ولا بد لكل صنعة مِن صانع، ولا بد لكل موجود مِن موجِد "، صدقنا وآمَنَّا؛ فلتقولوا لي إذن: مَن خلق الله؟ أم أنه جاء بذاته؟ فإذا كان قد جاء بذاته، وصحَّ في تصوركم أنْ يتم هذا الأمر؛ فلماذا لا يَصِحُّ في تصوركم أيضًا أنَّ الدنيا جاءت بذاتها بلا خالق وينتهي الإشكال؟ كنت أقول هذا فتَصفرُّ مِن حولي الوجوه، وتنطلق الألسن تمطرني باللعنات، وتتسابق إلىَّ اللكمات عن يمين وشمال، ويستغفر لي أصحاب القلوب التّقيَّة، ويطلبون لي الهُدي، ويتبرأ مِني المتزمِّتون ويجتمع حولي المتمردون؛ فنغرق معًا في جدل لا ينتهي إلا ليبدأ، ولا يبدأ إلا ليسترسل.
لقد رفضتُ عبادة الله لأني استغرقتُ في عبادة نفسي، وأعجبت بِوَمْضَة النور التي بدأت تومض في فكري مع انفتاح الوعي، وبداية الصحوة مِن مهد الطفولة، ولكن سرعان ما تعلمت في كتب الطب النظرة العلمية، وأنه لا يَصحّ إقامة حُكْم بدون حيثيات مِن الواقع وشواهد مِن الحس، وأنَّ العلم يبدأ مِن المحسوس والمنظور والملموس، وأنَّ العلم ذاته هو عملية جَمْع شواهد واستخراج قوانين، وما لا يقع تحت الحس؛ فهو في النظرة العلمية غير موجود، وأنَّ الغيب لا حساب له في الحكم العلمي، وبهذا العقل العلمي المادي البحت بدأت رحلتي في عالم العقيدة، وبالرغم مِن هذه الأرضية المادية والانطلاق مِن المحسوسات الذي ينكِر كل ما هو غيب؛ فإني لَم أستطع أنْ أنفي أو أستبعد القوة الإلهية.
كان العلم يمدّني بوسيلة أتصور بها الله بطريقة مادية، وفي هذه المرحلة، تصورتُ أنَّ الله هو الطاقة الباطنة في الكون في منظومات جميلة، مِن أحياء وجمادات وأراض وسماوات، وهو الحركة التي كشفها العلم في الذرة، وفي البروتوبلازم وفي الأفلاك، وهو الحيوية الخالقة الباطنة في كل شيء، وكان الوجود في تصوري لا محدودًا؛ لا نهائيًا؛ إذ لا يُمْكن أنْ يَحُد الوجود إلا العدم، والعدم معدوم، ومِن هنا يلزم منطقيًا أنْ يَكون الوجود غير محدود ولا نهائي. ولا يصح أنْ نسأل: مَن الذي خلق الكون؟ إذ إنَّ السؤال يستتبع أنْ الكون كان معدومًا في البداية ثُم وُجِد، وكيف يَكون لمعدوم كيان؟
إنَّ العدم معدوم في الزمان والمكان، وساقط في حساب الكلام، ولا يصح القول بأنه كان، وبهذا جَعلتُ مِن الوجود حدثًا قديمًا أبديًا أزليًا، ممتدًا في الزمان لا حدود له ولا نهاية، وأصبح (الله ) في هذه النظرة هو الكل ونحن تجلياته؛ فالله هو الوجود، والعدم قبله معدوم، حيث إنَّه هو الوجود المادي الممتد أزلًا وأبدًا بلا بَدْء وبلا نهاية.
هل صحيح أنَّ النفْس ما هي إلا مجرد حوافز الجوع والجنس ومجموعة الاستشعارات التي يدرِك بها الجسد ما يحتاجه؟ لو قلنا هذا فنحن أمام تفسير مادي متهافت؛ فما هكذا حقيقة النفْس، ولا حقيقة الإنسان. إنَّ الإنسان ليُضَحِّي بلقمته وبيته وفراشه الدافئ، في سبيل أهداف ومُثُل وغايات شديدة التجريد، كالعدل والحق والخير والحرية؛ فأين حوافز الجوع والجنس هنا؟ والمحارِب المقاتل في الميدان، الذي يُضَحِّي بنفسه على مدفعه في سبيل غدٍ لم يأت بعد؛ أين هو مِن التفسير المادي؟ إننا أمام إثبات قاطع بأنَّ النفْس والذات حقيقة متجاوزة وعالية على الجسد، وليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة داخلية.
تلك الإرادة الهائلة التي تدوس على الجسد وتُضَحِّي به، هي حقيقة متجاوِزة عالية بطبيعتها، وآمِرة ومهيمِنة على الجسد، وليست للجسد تبعًا وذيلًا. وإذا كنتُ أنا الجسد؛ فكيف أَتحكم في الجسد وأُخضِعه؟ وإذا كنت أنا الجوع؛ فكيف أَتحكم في الجوع؟ إنَّ مجرد الهيمِنة الداخلية على جميع عناصر الجسد ومفردات الغرائز، هي الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي والمفارِق، الذي تتألف مِنه الذات الإنسانية؛ فعن طريق النفْس أتحكم في الجسد، وعن طريق العقل أتحكم في النفْس، وعن طريق البصيرة أضع للعقل حدوده، وهذا التفاضل بَيْن وجود ووجود يعلو عليه؛ هو الإثبات الواقعي الذي يقودنا إلى الروح كحقيقة عالية متجاوزة للجسد وحاكمة عليه، وليست ذيلًا وتابعًا تموت بموته.
والذي يقول بأنَّ الإنسان مجموعة وظائف فسيولوجية مادية لا غير؛ عليه أنْ يفسِّر لنا أين يذهب ذلك الإنسان في لحظة النوم؟ فجميع الوظائف الفسيولوجية قائمة ومستمرة في أثناء النوم، وجميع الأفعال المنعكسة واللاإرادية تحدث بانتظام؛ فالقلب يدق والنفس يتردد والغدد تفرز، والأحشاء تتلوى، والأعضاء التناسلية تهتاج، والذراع ينقبض لشكَّة الدبوس، ومع ذلك فنحن أمام رجل نائم أشبه بشجرة. إنَّ النوم ثم اليقظة ثُم البعث، يكشف لنا - مرة أخرى - عن ذلك العنصر المتعالِي، الذي يخلق بحضوره في تلك الجثة النائمة - فجأة وبلا مقدمات - (هتلر ) أو (نيرون )؛ فإذا بذلك الممَدد كالثور الهامد يصحو؛ ليَقتل ويغزو ويسحق ويمحق، وهذا الفَرق الهائل أكبر مِن أنْ يُفسَّر بتغير مادي يتم في لحظات.
اكمل قراءة الملخص كاملاً علي التطبيق الان
ثقف نفسك بخطة قراءة من ملخصات كتب المعرفة المهمة
هذه الخطة لتثقيف نفسك و بناء معرفتك أُعدت بعناية حسب اهتماماتك في مجالات المعرفة المختلفة و تتطور مع تطور مستواك, بعد ذلك ستخوض اختبارات فيما قرأت لتحديد مستواك الثقافي الحالي و التأكد من تقدم مستواك المعرفي مع الوقت
حمل التطبيق الان، و زد ثقتك في نفسك، و امتلك معرفة حقيقية تكسبك قدرة علي النقاش و الحوار بقراءة اكثر من ٤٣٠ ملخص لاهم الكتب العربية الان